حين تحدّثت السماء: كيف ابتكر الإنسان القديم الزمن وصاغ تقاويمه من ضوء القمر وظلال الشمس”

في عصر تفتّحت فيه عيون البشر على السماء كلوحةٍ شفّافةٍ تُسجّل ضوء النجوم، واكتشفت أنماطها الموسمية والدورية، وُلدت فكرة الزمن والتقويم. بل إن الإنسان القديم لم يكن مجرد مشاهدٍ للعالم الخارجي، بل كان مُدوِّنًا له، راصدًا لمداورة الشمس والقمر والنُجوم، سائغًا عبرها إشارات العبور بين الليالي والأيام والفصول. اليوم، نعيد قراءة تلك الخريطة السماوية القديمة، لنعرف كيف صاغ أسلافنا تقاويمهم، وكيف تحوّلت حركات الأجرام السماوية إلى أعياد ومناسبات وفصول.

من الظل إلى البداءة: أدوات الزمن البدائية

عندما اقترب الإنسان من تجربة الزمن، لم يكن في جعبته إلا ظلٌّ وسكون، نقشته الشمس على سطح الأرض، تتلوه حركة بطيئة، دقيقة، لا تخطئ: هذا هو الأساس الأول لتقسيم النهار. والمِزْوَل، أي عمودٌ رأسي يلقى عليه ضلّ، هو واحد من أقدم أدوات الزمن المعروفة، إذ كانت حركة الظل ترصد الساعات، وكانت مواضِع الظلال وتغير زاويتها تُعبّر عن تقدم اليوم.

في مصر، على سبيل المثال، استخدمت المسلات — أعمدة عالية ترفع ظلها بعيدًا على الأرض — لتحديد أوقات الظهر أو لتقسيم أجزاء النهار في مواقيت الصلاة والطقوس الدينية. ومع تكرار الرصد، صار من الممكن تحديد خطوط زمنية ضمن اليوم: شروق، ارتفاع، غروب، وما بين ذلك من أقسام.

ولم يقتصر الأمر على ذلك؛ فالأرض نفسها والمراصد البسيطة استُخدمت أيضًا في مراقبة مواقع الأجرام السماوية كالشمس والقمر والنجوم البارزة، وبخاصة النجم «الشعرى اليمانية» (سيريوس – Sirius). هذا النجم، لما يطلع heliacally (أي يشرق أولًا بعد فترة اختفاء خلف الشمس)، كان علامةً بديعة على بداية العام الزراعي في مصر. (Wikipedia)

عبر تلك الملاحظة الدقيقة، ربط الفلك بالزراعة؛ لأن في بداية ارتفاع مياه النيل، كانت الأرض تستعد للحصاد أو الزراعة. ومن ثم كان الشعرى يشير إلى وقت الفيضان، وإلى بدء دورة حياة جديدة. (ecuip.lib.uchicago.edu)

وهكذا، من خلال الظلال والنجوم، تحولت السماء إلى ساعة كونية.

التقويم الشمسي: مصر القديمة مثلاً

مصر الفرعونية كانت من رواد التقويمات الشمسية. فعبر ملاحظة أن السنة الشمسية نحو 365 يومًا تقريبًا، صاغ المصريون التقويم المدني الذي يحتوي على اثني عشر شهرًا من 30 يومًا، أي 360 يومًا، وأضافوا خمسة أيام إضافية — ما يُعرف بالأيام الخمسة «الملحقة» — لتقريب السنة إلى 365 يومًا. (Wikipedia)

لكن هذا التقويم لم يُقدّم معالجةً للميل الزمني الذي ينجم عن أن السنة الفعلية أقرب إلى 365.25 يومًا، ولم يُدمَج حساب الكبيسة كما نفعل اليوم. لذا، كان التقويم المدني المصري ينزلق موسمياً — بمعنى أن رأس السنة الفعلية (طقس الفيضان المرتبط بـ سيريوس) كان يتراجع عبر القرون في التقويم المدني.

للتوفيق بين ذلك، وضع المصريون ما يُعرف بدورة Sothic أو دورة سيرتية، وهي فترة تمتد نحو 1460 سنة يقوم بعدها التقويم المدني بالالتقاء مجددًا مع الظاهرة الفلكية (أي مع صعود سيريوس heliacally). (Wikipedia)

على سبيل المثال، عبر تلك الدورة الطويلة، يعود التقويم إلى نقطة انطلاقه الفلكي، ويُطرح فرق الانزلاق الذي تراكم عبر العصور.

إضافة إلى ذلك، استخدم المصريون مواقع النجوم والأبراج في مواعيد المعابد والمحاور، فكان بناء المعابد مرتبطًا بمحاور فلكية، بعض التماثيل تُوجَّه نحو نجوم معينة، تعبيرًا عن أن الزمن والفضاء مرتبطان بطبيعة الكون المراقَب.

التقويم القمري: القمر كمعلم الزمن

من جهة أخرى، اعتمدت حضارات عديدة على القمر كمقياس شهريٍّ طبيعي، فكل دورة قمرية بين محاق وآخر تستغرق حوالي 29.5 يومًا، ومع 12 دورة تتكوّن سنة قمرية تبلغ حوالي 354 يومًا. هذا الفرق نحو 11 يومًا بين السنة القمرية والسنة الشمسية كان يُشكّل تحديًا ديموغرافيًا للذين يعتمدون القمر وحده في التقويم. (Encyclopedia Britannica)

التقويم الإسلامي (الهجري) على سبيل المثال، يعتمد على تلك الدورة: 12 شهرًا قمرية، بدون تعديلٍ سنوي تلقائي ليتماشى مع الشمس أو الفصول، فالأشهر تسبح في الفصول عبر الزمن. هذا يعكس في طبيعته رؤية دينية وزمنًا رحليًا أكثر من كونه زمنيًا زراعيًا ثابتًا.

لكن الحضارات التي أرادت المحافظة على انتظام الفصول والزراعة أو الشعائر، استحدثت التقاويم الهجينة (القمري ـ الشمسي)، عن طريق إدخال شهر إضافي (شهر فاصل أو intercalary) في بعض السنوات، لتعويض الفارق.

الأثينيون ودورة مِتونيك: مزج القمر والشمس

من بين النماذج الأكثر براعة في المزج بين القمر والشمس، يبرز التقويم الأثيني القديم (التقويم الأتيكي). في البداية، كان تقويمًا قمريًا بحتًا، مكوّنًا من 12 شهرًا مدة بعضها 29 يومًا وبعضها 30 يومًا بالتناوب. لكن مع مرور الزمن، بدا واضحًا أن هذا التقويم ينحرف عن الفصول.

لحل هذه المشكلة، في عام 432 قبل الميلاد تقريبًا، اقترح الفلكي أثيني يُدعَى ميتون دورة مدتها 19 سنة، بحيث في هذه الفترة يُقابل فيها 235 دورة قمرية تقريبًا 19 سنة شمسية. وبهذه الطريقة يكون بالإمكان تنظيم عدد الشهور والأشهر المضافة في نمط منتظم. (Encyclopedia Britannica)

في تلك الدورة، يجب أن تُضاف سبعة أشهر إضافية (شهر فاصل) في سنوات معينة من الدورة (عادة في السنوات: 3، 6، 8، 11، 14، 17، 19) لضبط التقويم القمري مع السنة الشمسية. (World History Encyclopedia)

في الأثينية، الشهر الفاصل غالبًا ما كان يُضاف بعد شهر بوسايدون ويسمى بوسايدون الثاني. (World History Encyclopedia)

الأثينيون أيضًا كان لهم مرونة: في بعض السنوات، كان المسؤول (الأرخون) يقرر متى يضاف الشهر، بناءً على الملاحظة الفعلية للقمر أو الظروف السياسية/الطقسية، فلم يكن النظام صارمًا دائمًا. (World History Encyclopedia)

من أسماء الأشهر في التقويم الاتيكي، على سبيل المثال: هيكاتومبيون، ميتاجتنيون، بويدروميون، بيانيبسيون، ميمكريون، بوسايدن، جامليون، أنثستريون، إيلافبوليون، مانيشيون، ثارجليون، سكيروفوريون. (Encyclopedia Britannica)

ومع أن الميتونيك قدّم نظامًا منهجيًا، إلا أن التطبيق العملي في أثينا ظل متقلبًا، إذ أن الأرخون قد يؤخر أو يسبق إضافة الشهر حسب حاجة المدينة الفعلية، مما يثير صعوبة في تطابق التواريخ بين المصادر القديمة. (World History Encyclopedia)

وبذلك، نجحت أثينا في الجمع بين دقة القمر وسلطة الشمس.

حكاية الزمن: كيف كانت تُسجّل الأيام والشهور

من الناحية الرمزية، أطلق الإغريق على اليوم الأول من الشهر اسمي نومينيا (Noumenia) — أي القمر الجديد. وكانت الأشهر تُقسم إلى فترات: فترة الزيادة، وفترة الاكتمال، وفترة النقصان. (World History Encyclopedia)

أما في التسمية، فالأشهر لم تكن موحّدة في كل المدن اليونانية؛ فمثلاً في أثينا سُمّيت الأشهر كما ذكرنا، أما في مناطق أخرى فقد تتفاوت الأسماء ومتى يبدأ العام.

ولذلك، في التقويم الأثيني، يُرقَّم الشهر الأول إلى الثاني إلى الثالث هكذا، أحيانًا بدون أسماء معروفة، بحسب الولاية أو المناطق المختلفة.

في ذلك الوقت، كان اليوم يُقسَّم إلى ساعات غير متساوية: في الصيف كانت الساعة أقل طولًا في الليل، وأطول في النهار، والعكس بالعكس في الشتاء. إذ اعتمدوا مبدأ التقسيم إلى اثني عشر ساعة لكل من الليل والنهار، لكن بطول غير ثابت. (Encyclopedia Britannica)

كما استُخدِمت أدوات أخرى مثل الساعة المائية (الكلبس) في بعض المدن بعد وقت، خاصة في اليونان، لرصد مرور الزمن ليلاً عندما لا تنفع المظلة أو الظلال. (Encyclopedia Britannica)

باختصار، اليوم لم يكن وحدة ثابتة كما نفهمها؛ بل كان مشغولًا بالتكيّف مع الشمس والقمر والطقوس.

سرد التقويم: بين العلم والطقس والحكم

حين ننظر إلى التقويم القديم ليس كأداة رياضية بحتة، بل كنسيجٍ يربط بين الإنسان والسماء، نرى سردًا غنيًا يجمع بين الفلك والسياسة والدين. التقويم ليس مجرد عدد أيام، بل قصة تفاعل بين الأرض والسماء، بين البشر والمواسم.

في مصر، عند طلوع سيريوس heliacally، كان الفراعنة يرون إشارة الربط بين النفس الإلهية للنجم والخصوبة الزراعية والبداية السنوية. كانت الاحتفالات تبدأ في هذا اليوم، وعندما يعود التقويم المدني (الذي ينزلق) في كل مرة عبر دورة Sothic، كان الاحتفال يتضاعف في أهميته. (Wikipedia)

في اليونان، التقويم مرتبط بالحياة المدنية: تنظيم المهرجانات، انتخاب الأرخون، قرارات السياسات، مواسم الزراعة والحصاد، كلها مرتبطة بالتقويم. فالتقويم ليس حيادًا، بل أداة للسلطة والتنظيم. (World History Encyclopedia)

ويُذكر أن اليونانيين تبنّوا دورات ميتونيك بناء على ملاحظة فلكية دقيقة، وربما بتأثير من البابلية، لكنهم أضافوا عنصر الحكم، أن الأرخون يملك القرار النهائي في التعديل، وهو ما يجعل التقويم مزيجًا بين العلم والسلطة. (Cambridge University Press & Assessment)

كما أن التقويم لم يكن جامدًا: فبعض المدن قد تبدأ العام في شهور مختلفة، وتضيف شهورًا بحسب الحاجة، فتظهر تفاوتات محلية تجعل دراساته معقّدة للغاية. (ProtoThema English)

ومن الجدير بالذكر أن العلماء اليوم يعتمدون على النصوص الفلكية — مثل ملاحظة النجوم والمواقع السماوية — لفك شفرة تلك التقاويم القديمة وربطها بتقويمنا المعاصر، وهو جهد يتطلب دقّة علمية عالية. (Cambridge University Press & Assessment)

إليك بعض المراجع الأكاديمية والجادة التي يمكنك الرجوع إليها للتعمّق في موضوع التقاويم المصرية القديمة ودورة سيريوس (Sothic cycle)، وكذلك في التقويم اليوناني القديم ودورة ميتون والتقاويم اليونانية الفلكية:

مراجع حول التقويم المصري ودورة سيريوس (Sothic cycle)

  1. Sacha Stern, “The Egyptian Calendar” — في كتاب Calendars in Antiquity: Empires, States, and Societies (Oxford University Press). هذا الفصل يناقش التقويم المدني المصري، نشأته، انحرافه الموسمي، المحاولات الإصلاحية مثل مرسوم كانوبس، والعلاقة بين التقويم المدني والتقويمات القمرية في المعابد. (OUP Academic)
  2. “Sun, Moon, and Sothis: A Study of Calendars and Calendar Reforms in Ancient Egypt” — كتاب لِـ Lynn E. Rose، يستعرض بدقة تاريخ التقاويم في مصر القديمة، الموازنات بين التقويم الشمسي والقمر، والمراقبات الفلكية. (kronos-press.com)
  3. مقال “Sothic cycle” في Britannica — يوضح كيف أن التقويم المصري ينجرف يومًا واحدًا كل أربع سنوات تقريبًا، وأن دورة Sothic تُكمّل هذا الانزياح عبر حوالي 1460 سنة. (Encyclopedia Britannica)
  4. مقال “HGSS – The curious case of the Milankovitch calendar” — يعرض كيف أن التقويم المصري التقليدي (365 يومًا بلا كبيسة) ينزلق، ويذكر اقتراح مرسوم كانوبس الذي كان يقضي بإضافة يومٍ إضافي كل أربع سنوات، وهي فكرة إصلاحية لم تُطبّق عمليًا كليًا في مصر القديمة. (hgss.copernicus.org)
  5. مقالات Lauri Jetsu وSebastian Porceddu وغيرها عن التقويم الكائي (Cairo Calendar) — هذه الأبحاث تحاول إثبات أن المصريين قد يكونون قد سجّلوا في هذا التقويم ظواهر فلكية معقدة، مثل تغيّر نجم Al­gol، إلى جانب دورات القمر. (انظر مثلاً “Did the ancient Egyptians record the period of the eclipsing binary Algol” و “Algol as Horus in the Cairo Calendar”) (arXiv)

مراجع حول التقويم اليوناني القديم ودورة ميتون

  1. مقال “Greek Astronomical Calendars and their Relation to the Athenian Civil Calendar” لـ B. L. van der Waerden — هذا البحث الأكاديمي يميز بين الشهور الفلكية الحقيقية والشهور الوسطية (mean months)، ويتناول كيف تأثرت التقويمات المحلية اليونانية بدورة ميتون وعلاقتها بالتقويم المدني في أثينا. (Cambridge University Press & Assessment)
  2. مقال “The Calendar on the Antikythera Mechanism and the Corinthian Family of Calendars” لـ Paul A. Iversen — يناقش كيف وُضِع التقويم اليوناني (بما في ذلك دورات ميتون) في جهاز Antikythera، ويعرض كيف تأثر التقويمات المحلية اليونانية (خاصة من أسرة كورينث) بهذا النظام. (ascsa.edu.gr)
  3. مقال “Meton” في Britannica — يشرح من هو ميتون، وكيف لاحظ أن 19 سنة شمسية يقابِلها تقريبًا 235 دورة قمرية، مما أدى إلى اعتماد هذا النظام في التقويم الأتيكي. (Encyclopedia Britannica)
  4. مقال “Metonic Cycle” من Wolfram / Eric Weisstein — شرح رياضي دقيق لدورة ميتون، وكيف تُضاف الأشهر الفاصلة في سنوات معيّنة (عادة السنوات: 3، 5، 8، 11، 13، 16، 19) لمزامنة القمر مع الشمس. (scienceworld.wolfram.com)
  5. مقالات عن مكون Metonic في جهاز Antikythera — تعرض كيف أن الجهاز كان يضم قرص مخصص لدورة ميتون (Metonic Dial) ليربط بين مسارات القمر والشمس. (antikytheramechanism.com)

في الختام: عبور الزمن المنظّم

حين نقرأ السطور الفلكية التي نسجها القدماء، ندرك أن الزمن لم يكن مجرد منفذًا عقيمًا يعبره الناس ساعتها فحسب، بل كان صديقًا، شاهدًا، علامة، دليلًا. عبر المزاول والنجوم، عبر سيريوس والمظاهر السماوية، ابتكر الإنسان أدواته ليجاور الطبيعة، ليقرأ في السماء دليلًا ليوميّته، ويصوغ به تقاويمه.

ولهذا، لا نقرأ تلك التقاويم القديمة كمجرد أرقام جامدة، بل كمخزون بشري غني من الثقافة والفكر والروح، حيث كان التقويم جسرًا بين الأرض والسماء، والحياة والرغبة في الانسجام مع حركة الكواكب.

Scroll to Top