
في قلب الغابات الشمالية الباردة، وعلى المدرّجات الجبلية المغطاة بالثلوج، تعيش أنواعٌ من الأرانب تُعرف بالأرنب الثلجي أو ما يُسمّى بـ Snowshoe hare (Lepus americanus) وMountain hare (Lepus timidus). هذه الكائنات الظريفة، التي تبدّل لون فرائها بخِمسها بين الأبيض في الشتاء والبني في الموسم الدافئ، تلعب دورًا محوريًّا في توازن الأنظمة البيئية البورية. لكنّها اليوم تواجه أزمة حقيقية: أعدادها في تناقص مستمر، ما يحذّر الباحثين من تبعاتٍ بيئية قد تكون عظيمة. (naturalengland.blog.gov.uk)
لماذا تهبط أعداد الأرانب الثلجية؟
تغيّر المناخ ولون الفراء المُزيّف
من أبرز العوامل التي تقف وراء الانخفاض الحاد في أعداد الأرنِب الثلجية تغيّرات المناخ. مثلاً، في جبال الألب السويسرية، تبين أن موئل الأرنِب الجبلي (Mountain hare) سيتقلّص بنحو الثُلث بحلول نهاية القرن بسبب ارتفاع درجات الحرارة وتقلّص تغطية الثلوج. (ScienceDaily)
أما الأرنب الثلجي (Snowshoe hare)، فقد أُشير إلى أنّ تغطية الثلوج المتناقصة المسؤولة عن تغيير لون الفراء تسبّب ما يُسمّى بـ “عدم التوافق في التمويه” (camouflage mismatch): إذ يصبح فراء الأرنب الأبيض في فصل الشتاء على أرضٍ لا تُغطّى بالثلوج، ما يجعله فريسة سهلة للمفترسين. (The Daily Climate)
تغير الموائل وتجزئتها
إلى جانب تغيّر المناخ، يُعد تدمير الموائل وتجزئتها (مثل قطع الأشجار أو تغيير استخدام الأراضي) أحد العوامل التي تقلّل من إمكانية الأرنِب إعطاء غطاءٍ كافٍ للهرب من المفترسين أو إخفاء نفسه. في دراسة على منطقة «Peak District» في إنجلترا، لاحظ الباحثون انخفاضًا وصل إلى 60% في كثافة الأرنِب الجبلي خلال ثمانية أعوام فقط. (naturalengland.blog.gov.uk)
الضغط من المفترسات والافتراس
النظام الغذائي للأرنِب الثلجية يتضمّن نباتاتٍ منخفضة النموها كالأغصان، وأيضًا تغطية كثيفة للهرب من المفترسين. لكن مع تقلّص هذه الظروف، يصبحون أكثر عُرضة للافتراس. دراسة أُجريت في ولاية ويسكونسن (USA) أوضحت أن اختفاء الأرنِب أثّر على مفترساتٍ اعتمدت عليها، وأظهر انخفاضًا في أعداد تلك المفترسات بمرور الوقت. (The Wildlife Society)
ما الذي يحدث عندما تنخفض أعداد الأرنِب الثلجية؟
انخفاض أعداد الأرنِب لا يُعدّ مشكلة محليّة فحسب – بل يسبّب سلسلة من التأثيرات على النظام البيئي بأسره:
أولاً: آثار على النباتات
حيث إن الأرنِب العاشبة تتغذّى بكثافة على نباتات صغيرة أو أغصانٍ ضعيفة النمو، فإن هبوط عددها يعني تخفيف الضغط على تلك النباتات. هذا بدوره يُتيح للنباتات أن تتعافى، تتكاثر وتنتشر أكثر، ما قد يُغيّر بنية الغطاء النباتي داخل الغابة أو المنطقة البورية. مثلاً، مناطق كان يُجوبها الأرنب الثلجي بكثافة، لاحظ الباحثون تغيّرات في جنس النباتات التي تنمو بعد انخفاض الضغط التابع للرعي أو الأكل. (National Park Service)
ثانيًا: آثار على المفترسات
المفترسات كـ Canada lynx (الوشق الكندي) أو الثعالب المرتبطة بالأرنب الثلجي كمصدر غذاء رئيسي تجد نفسها اليوم مضطرة للبحث عن بدائل غذائية أو مواجهة انخفاض في أعدادها. ويكيبيديا تذكر أن الوشق الكندي يعتمد على الأرنب الثلجي بنسبة تتراوح بين 35‑97% من غذائه في بعض المناطق. (Wikipedia)
انخفاض الغذاء ليس فقط يؤثر على أعداد المفترسات الحالية، بل قد يُحدث تغيّراً في سلوكها، وربّما نزوحها إلى مناطق أخرى بحثاً عن الفريسة، أو زيادة تنافسها مع مفترسات أخرى. (The Wildlife Society)
ثالثًا: تأثيرات وسلسلة الغداء (Trophic cascade)
الآن، تخيّل سيناريو: عدد الأرنِب يقلّ → النباتات تتغيّر → مفترسات الأرنِب تبدأ بالتراجع أو تغير سلوكها → نظام الغطاء النباتي والفريسة والمفترسة يتبدّل.
مثل هذه التغيّرات تُعرف بالتغيّرات الحلقية أو (Trophic cascades) – عندما يؤثر تغيّر في مستوى الغذاء (الفريسة) في مستويات عدة أعلى وأسفل في السلسلة الغذائية. دراسة رصدت في ويسكونسن أظهرت أن إعادة إدخال الأرنِب قد حسّنت من بقاء صغار القوارض والمفترسات الأخرى، ما يبيّن حجم التأثير في النظام البيئي. (The Wildlife Society)
لماذا يهم هذا الأمر؟
الأنظمة البورية والغابات الشمالية ليست مكونات هامشية للبيئة العالمية – بل لها صلة وثيقة بمناخ الكرة الأرضية، بتخزين الكربون، وتنظيم درجات الحرارة، ودعم تنوّعٍ حيوي غنيّ. إذًا، انهيار مكوّن أساسي في هذا النظام مثل الأرنب الثلجي قد يعني تغيّراً أوسع بكثير من مجرد عدد أقلّ من الأرانب.
فضلاً عن أن التغيّرات في تلك الأنظمة تمسّ مباشرة مفترساتٍ ونباتاتٍ أخرى قد تكون ليست مشهورة لكنها تلعب أدوارًا حيوية. أيضاً، العلم يُشير إلى أن المجتمعات البشرية التي تعتمد على هذا التنوّع – من الصيد إلى السياحة البيئية إلى توازن المياه – قد تتأثر.
ماذا يمكن أن يُفعل؟
حماية المواطن الطبيعية
– الحفاظ على الغطاء النباتي الذي يُوفّر للأرنِب مأوىً وكشفاً عن المفترسين.
– تجنّب تجزئة الموائل، أو إعادة ربط الشُظايا (habitat connectivity) لضمان حرية تنقّل الحيوانات. (SWI swissinfo.ch)
– في المناطق التي يتغيّر فيها الثلج أو يختفي مبكراً، توجيه الجهود لإعادة خلق البيئة التي تُخفّي الأرنِب أو تُقلّل من كشفه للمفترس.
مراقبة وتسجيل الأنواع
– إجراء تعداد دوري للأرنِب وأعداد المفترسات المرتبطة به، لتحليل الاتجاهات والتنبّؤ بالتغيّرات.
– استخدام تكنولوجيا التتبّع (كالأقمار GPS أو كاميرات المراقبة) لفهم أين يذهب الأرنب، وأين يفترس، وما هي نقاط الضغط.
معالجة تغيّر المناخ
– التغيير المناخي هو عامل رئيسي في انهيار بعض مواطن الأرنب الثلجي، لذا فإن جهود التخفيف من الاحترار العالمي تُعدّ ضرورية للحفاظ على التنوّع الحيوي في هذه المناطق.
– تنسيق البحوث مع المجتمعات المحلية لإدارة الغابات والتدفّق المائي والغطاء النباتي وفقاً للتغيّرات المناخية.
خاتمة
إنّ انخفاض أعداد الأرانب الثلجية هو ناقوس خطر ليس للأنواع وحدها، بل للنظام البيئي الذي تدعمه وللمفترسات التي تعتمد عليها وللنباتات التي تتحرّر من ضغط الرعي لتتغيّر هي الأخرى. على مستوى الكوكب، تمثّل هذه الأرانب جزءًا من ماكينة بيئية دقيقة تُوازن بين الغذاء والمأوى والتمويه والتكيّف. إن ضياعها أو انهيارها يشكّل تحذيراً بأنّ تغييراً أكبر قد يكون على الأبواب.
الحفاظ على هذه الأنظمة ليس رفاهية علمية بل مسؤولية بيئية وثقافية وأخلاقية — لأنها تربط بين ما نراه وما لا نراه، بين الثلج والأرنب والمفترس، وبين النظام الذي نعتقد أنه ثابت وبين الواقع الذي يتغيّر.
للمزيد من المعلومات حول انخفاض أعداد الأرنِب الثلجية وأثره على النظم البيئية، يمكنك الرجوع إلى تقرير «The impacts of snowshoe hare extirpation cascades through ecosystem». (The Wildlife Society)


