دوالي الخصية والعقم: ما الحقيقة؟ بين القلق والعلاج الحديث

في ردهات عيادة الإنجاب، كثيرًا ما يهمس الرجال في آذان بعضهم البعض: «هل دوالي الخصية قد تكون سبب المشكلة؟» السؤال هذا ليس ترفًا، بل يلمس جوهر القلق الذي يدور في ذهن كل رجل يواجه تأخرًا في الإنجاب، أو يشعر بأعراض غير مريحة في المنطق التناسلية. فبينما تبدو دوالي الخصية ظاهرة شائعة نسبيًا، هناك تفاوت كبير في تأثيرها على الخصوبة. في هذا التقرير، نغوص في الأدلة الحديثة، نُفكك المفاهيم المغلوطة، ونقدم خارطة طريق لعلاج فعّال، بموازاة قصص واقعية وآفاق مستقبلية.

أولًا: ماذا نعرف عن دوالي الخصية؟

دوالي الخصية (Varicocele) هي تضخم غير طبيعي في الأوردة التي تصريف الدم من كيس الصفن (الكيس الذي يحتوي الخصيتين). يحدث هذا عندما تفشل صمّامات هذه الأوردة في العمل بشكل سليم، فيتجمع الدم ويُحدث ضغطًا حراريًا في الخصيتين، ما يرفع درجة حرارتهما قليلًا، ويُعتقد أن هذا الارتفاع قد يؤثر على إنتاج الحيوانات المنوية بشكل سلبي. (Verywell Health)

إحصائيًا، يُقدّر أن 15 إلى 20٪ من الرجال يعانون دوالي الخصية. (Verywell Health)
بين أولئك الذين يعانون من العقم، تظهر دوالي الخصية في نسبة تراوح بين 30 إلى 40٪ تقريبًا. (Verywell Health)

لكن وجود دوالي الخصية لا يعني بالضرورة أن الرجل سيواجه العقم؛ فهي حالة ذات تأثير متفاوت حسب شدة الحالة وخصوصية الفرد.

ثانيًا: هل دوالي الخصية تسبب العقم فعلاً؟

الإجابة القصيرة هي: قد تساهم، لكنها ليست السبب الوحيد أو الحتمي. بينما توجد الكثير من الحالات التي تشهد تحسنًا بعد العلاج، هناك حالات لا تتأثر بشكل كبير.

الأدلة التي تدعم العلاقة:

  • كثير من الدراسات أظهرت أن إصلاح الدوالي (varicocelectomy) يُحسّن المعلمات المِنيّة (عدد الحيوانات المنوية، الحركية، التشكل) بدرجة ملحوظة. (PubMed)
  • تحليلات ميتا (Meta‑analyses) تُشير إلى أن علاج دوالي الخصية يزيد فرص الحمل الطبيعية. على سبيل المثال، إحدى الدراسات جمعت 31 مقالة ووجدت أن الرجال الذين تلقّوا العلاج لديهم معدل حمل أعلى مقارنة بمن لم يُعالَجوا (OR ≈ 1.82) (PubMed)
  • أيضًا، دراسات على تقنيات الإنجاب المساعدة (مثل الحقن المجهري ICSI) أظهرت أن علاج دوالي الخصية قد يرفع احتمالات نجاح التلقيح. (PubMed)
  • عند النظر إلى مراجعة منهجية واسعة، وُجد أن أقل من 40٪ من الرجال الذين يُجرون ربط الدوالي يحققون حملًا طبيعيًا خلال الفترة القصيرة التالية بعد الجراحة. (PubMed)

التحديات والقيود:

  • الدراسات تتباين في جودتها، وبعضها بدون تصميم عشوائي قوي، ما يحدّ من قوة الأدلة. (PubMed)
  • رغم التحسن في المعايير المِنوية، ليس كل مريض سيُحقّق حملًا طبيعيًا، لأن هناك عوامل أخرى تؤثر في الخصوبة (عوامل أنثوية، جودة البويضة، عوامل جينية، وغيرها).
  • بعض الدراسات تشير إلى أن الفرق في معدّلات الحمل بين من عُولجوا الدوالي وبين من لم يُعالَجوا قد يكون “معتدلاً” وليس ضخمًا. (PubMed)

بالتالي، يمكن القول إن إصلاح الدوالي ليس ضمانًا للعقم “المعكوس” دائمًا، لكن الأدلة تشير إلى أن أصبح يُنظر إليه كخيار يُحسّن الاحتمالات، خاصة في الحالات التي توجد فيها معايير منوية منخفضة وبعض الأعراض المرتبطة بالدوالي.

ثالثًا: التأثيرات على الهرمونات، الانتصاب، القذف، والصحة الجنسية

من المهم ألا يُنظر إلى دوالي الخصية كعائق للإنجاب فقط، بل كخلل قد يمتد تأثيره إلى جوانب هرمونية ووظيفية أخرى.

تأثير على هرمون التستوستيرون

الخصيتان هما مصنع الهرمون الذكري “التستوستيرون”. بارتفاع الحرارة أو ضغط الدم الوريدي، قد تتضرر خلايا لايدج (Leydig cells) المسؤولة عن إنتاج هذا الهرمون، مما يؤدي إلى انخفاض مستويات التستوستيرون.

العديد من الدراسات أظهرت أن بعض الرجال المصابين بدوالي الخصية لديهم مستويات أقل من التستوستيرون مقارنة بأقرانهم الأصحّاء. إصلاح الدوالي قد يساعد في رفع هذا الهرمون تدريجيًا، ما قد ينعكس إيجابًا على الطاقة، الرغبة الجنسية، المزاج، الكتلة العضلية، وغيرها.

الانتصاب / الوظيفة الجنسية

انخفاض التستوستيرون قد يُساهم في ضعف الانتصاب أو انخفاض الرغبة الجنسية. إضافة إلى ذلك، الألم المزمن في كيس الصفن أو الانزعاج قد يثقل على العلاقة الجنسية ويقلّل من الأداء. قد لا تكون دوالي الخصية سببًا مباشرًا للضعف الجنسي في جميع الحالات، لكن يمكن أن تكون أحد العوامل المساهمة.

سرعة القذف

العلاقة بين الدوالي وسرعة القذف ليست قوية أو مباشرة، لكن يُحتَمل أن الانخفاض الهرموني والتوتر النفسي المرتبط بخشية العقم أو الألم قد يزيد من القلق والتوتر أثناء الجماع، مما قد يساهم في مشكلات مثل القذف السريع في بعض الحالات.

رابعًا: علامات تستدعي التقييم والعلاج

ليس كل دوالي تحتاج إلى علاج فوري. هناك معايير تُشير إلى ضرورة التدخّل:

  • وجود أعراض مؤلمة بكيس الصفن: شعور بالثقل، ألم مزمن
  • تراجع واضح في معايير المِنيّة (عدد الحيوانات المنوية، الحركية، التشكل)
  • انخفاض مستوى التستوستيرون المؤكد سريريًا
  • عقم غير مبرّر (بعد سنوات من المحاولة الشرعية)
  • تراجع حجم الخصية (ضمور) أو فرق في الحجم بين الخصيتين

عند توافر هذه المعايير، يُفضَّل استشارة طبيب ذكورة (Urologist / Andrologist) لإجراء الفحص المناسب.

خامسًا: طرق العلاج المتاحة – القديم والجديد

إليك لمحة عن الخيارات العلاجية المعروفة، وما الذي يُنظر إليه كتطوّر حديث:

العلاج الدوائي والمحلي (غير الجراحي)

  • لا يوجد دواء يُصلح الدوالي بحد ذاتها، لكنه يمكن استخدام مسكنات أو مضادات الالتهاب لتخفيف الأعراض.
  • بعض تجارب استخدام مضادات الأكسدة (Antioxidants) بُحثت كوسيلة لتقليل الضرر التأكسدي المرتبط بالدوالي، لكن النتائج لم تؤكد بعد فائدة كبيرة على معدّلات الحمل. (MDPI)
  • يُنصح بتعديل نمط الحياة: خفض التدخين، تجنب الحرارة الزائدة على المنطقة التناسلية، تجنب الملابس الضاغطة، ممارسة الرياضة باعتدال، والحفاظ على وزن صحي.

العلاج الجراحي / التدخّل الإشعاعي

1. ربط الدوالي (Varicocelectomy)

هو العلاج الكلاسيكي الأكثر انتشارًا، ويجرى بطرق مختلفة (الميكروسكوبية، الجراحة المفتوحة، المنظار). يُربَط أو يُغلَق الوريد المتضخم لتوجيه الدم إلى مسالك بديلة. (PubMed)
الطريقة الميكروسكوبية تحت الميكروسكوب تُعتبر الأكثر أمانًا وأقل مضاعفاتًا، وأعلى نجاحًا. (PubMed)
وفقًا لمراجعة منهجية، 26 إلى 40٪ من الرجال الذين أجروا ربط الدوالي حققوا حملًا طبيعيًا خلال الفترة القصيرة بعد العملية. (PubMed)

2. التصليب الوريدي / الانصمام (Embolization / Sclerotherapy)

بديل غير جراحي يتم عبر أنبوب رفيع يُدخل إلى الوريد ويُحقَن مادة تغلق الوريد المتضخم. مزاياه: أقل توغلاً، تعافي أسرع، لكن نسبة الارتجاع قد تكون أعلى في بعض الحالات. (Wikipedia)
بعض المرضى أبلغوا عن تحسن سريع في عدد الحيوانات المنوية بعد بضعة أشهر من الإجراء. > “3 أشهر بعد الانصمام تحسّن عدّي إلى 160 مليون / مل” (Reddit)

3. تقنيات هجينة أو ملاحية مستقبلية

  • استكشاف دمج الربط مع استخدام مضادات الأكسدة أو العلاجات المضادة للإجهاد التأكسدي
  • استخدام التصوير المساعد أو التنظير الدقيق لتحديد الأوردة الدقيقة التي تحتاج الربط
  • تكنولوجيا مستقبلية قد تشمل العلاج الموجي أو العلاج الجيني لتقوية بنية صمامات الأوردة أو تحسين كفاءة الخلايا المنتجة للحيوان المنوي

سادسًا: متى يُحقّق العلاج النتائج؟ وماذا تتوقّع بعد العملية؟

  • بعد الربط الجراحي أو الانصمام، يُفضَّل الانتظار ثلاث إلى ستة أشهر قبل إعادة تحليل المِنيّة، لأن دورة إنتاج الحيوانات المنوية بالكامل تستغرق حوالي 72 يومًا. (Verywell Health)
  • في كثير من الحالات، تتحسَّن المعلمات المِنوية تدريجيًا: زيادة في عدد الحيوانات المنوية، تحسّن في الحركة والتشكل. (PubMed)
  • لكن ليس كل من خضع للعملية سيحقق حملًا طبيعيًا، فقد يحتاج بعض الأزواج إلى تقنيات الإنجاب المساعدة (مثل التخصيب داخل المختبر). (PubMed)

سابعًا: نصائح عملية للرجل الذي يواجه هذه المشكلة

  1. لا تُهمِل الفحص الشامل
    إجراء فحص سريري وتلفزيوني (Ultrasound Doppler) لتأكيد وجود الدوالي وتقييم شدتها.
  2. ابدأ بالعلاج المحافظ إذا كانت الحالة خفيفة
    راقب الأعراض، عدّل نمط الحياة، وجرب العلاجات التكميلية إن وُجدت.
  3. اختَر طريقة الربط بعناية
    يُرجَّح استخدام الربط الميكروسكوبي الذي يُقلل من مضاعفات الارتجاع أو إصابة الأوعية الأخرى.
  4. تابع بانتظام بعد العملية
    لا تُسرع إلى النتائج؛ امنح نفسك 3–6 أشهر على الأقل قبل إصدار حكم على فاعلية العلاج.
  5. التحليل في الأزواج
    لا تنظر إلى الرجل فقط؛ الزوجة قد يكون لها دور في تأخر الحمل، لذا يُفضَّل أن يُفحص الزوجان معًا.
  6. استشارة فريق متخصص
    كطبيب ذكورة، أخصائي خصوبة، وربما طبيب نفسي (لأن القلق والتوتر قد يلعب دورًا ملموسًا).

خاتمة: بين الشكّ والأمل العلمي

دوالي الخصية ليست لعنة محكوم عليها بالإعدام الإنجابي، لكنها قد تكون عقبة حقيقية بالنسبة للبعض. الأدلة تُشير إلى أن العلاج (خصوصًا الجراحة الميكروسكوبية أو الانصمام) يمكن أن يحسّن المعايير المِنوية ويزيد من احتمالات الحمل، ولكن ليس بشكل مضمون تمامًا لكل حالة.

الفاصل بين الفشل والنجاح غالبًا ما يكون التشخيص الدقيق، التوقيت المناسب للعلاج، والاعتماد على فريق طبي مختص. إذًا، لا تدع القلق يُخيم عليك وحده؛ ابدأ بخطوة مدروسة، وامنح نفسك ومعركتك فرصة متوازنة بين العلم والتفاؤل.

Scroll to Top