

في عصرٍ تتسارع فيه البيانات وتتعاظم شبكة الإنترنت، يظهر بوضوح كيف أن الثورة المعلوماتية – أو بـ أدقّ الوصف التحوّلات الرقمية المعاصرة – خدمَت لغة الضاد على نحوٍ لم يكن متوقعاً قبل عقدٍ من الزمن. ليس الأمر مجرد حضور اللغة العربية في الفضاء الرقمي، بل هو تحوُّلٌ نوعيّ في طريقة تدريسها، استخدامِها، ونشرها. وفي هذا المقال نتابع قصة الخدمة التي قدّمتها هذه الثورة للّغة العربية — من منصّات التواصل إلى التعليم الرقمي، ومن إتاحة المحتوى إلى أدوات التعليم — بأسلوب سرديّ صحفي يمزج بين الواقع المعاش والبحث العلمي.
بداية التحوّل: “لغةٌ أعطيت لمجموعة قبل أن تُعطَ لِلشبكة”
عندما نعود بالذاكرة إلى مطلع الألفية، كانت العربية رغم كثرة متحدّثيها تُمثّل أقلّ من 5% من محتوى الإنترنت تقريباً. (teachmearabic.org) ومع كلّ جهاز محمول وكلّ خدمة جديدة يجري إطلاقها، بدأت تلك «الهوّة» تضيق. التوصّل إلى استخدام الأجهزة الذكية والاتصال بالشبكة أصبح ميسّراً بمجرّد الانتشار الواسع للهاتف المحمول والإنترنت في العالم العربي.
واللغة العربية لم تكن مجرد «لغة تحدٍّ تقني» فحسب، بل هي مكوّنٌ حضاريّ وثقافيّ، يُعبّر عن هوية أكثر من 400 مليونٍ شخصٍ — ناطقين أصليّين وثانويين. وبالتالي، عندما دخلت الثورة المعلوماتية ساحة اللغة، لم يكن الأمر مجرّد إضافة رقمية، بل كان لقاء بين الهوية والتكنولوجيا، بين الماضي والتنوّع الرقمي.
تعزيز انتشار العربية: من شبكات التواصل إلى المحتوى «بالعربية»
أحد أبرز مسارات الخدمة التي قدّمتها الثورة المعلوماتية للغة العربية هو انتشارها وتفاعلها بشكلٍ أوسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فالمنصّات مثل Facebook وInstagram وTikTok أطلقت فضاءاتٍ مخصّصة للّغة العربية، إذ تُستخدم في النشر، الحوار، التعليم، وحتى البثّ المباشر بالحروف العربية أو اللهجات المحلية.
هذا الانتشار أسهم في جعل العربية لغةً يوميّةً في فضاء العصر الرقمي، ليس فقط للقراءة والكتابة، بل للتفاعل والمشاركة. ما كان حلمًا قبل عشر سنوات بأن يكون «حوارٌ عربيّ مباشر على الإنترنت» بات واقعاً. بالمقابل، زاد الطلب على المحتوى العربي الأصليّ: فلم يعد كافياً أن تُترجَم النصوص من لغاتٍ أخرى بل بات مطلوباً إنتاج المحتوى من العربية إلى العربية، بل بلغةٍ رقميةٍ معاصرة تستجيب لإيقاع المستخدم الرقمي.
في هذا الإطار، فتح النشر الرقمي (كتباً، موسوعات، مواقع تعليمية ونشرات إلكترونية) أبوابه أكثر، وسهَّل الوصول إلى كنوز التراث العربي والإسلامي عبر المنصّات الرقمية، ما سهّل على الملايين من مستخدمي الإنترنت من العرب وغير العرب. (انظر دراسة حول محتوى اللغة العربية على الإنترنت) (teachmearabic.org)
تسهيل التعلم وانتشار المعرفة: ما بين التعليم التقليدي والرقمي
ومع هذا الانتشار، جاء التحدّي الأكبر: كيف يتعلّم المرء العربية أو يُحسّنها في هذا العالم الرقمي؟ هنا ظهرت أدوات وتقنيات غير مسبوقة: الدورات الإلكترونية، التطبيقات، الفيديوهات التعليمية، وحتى الذكاء الاصطناعي والمحادثات التفاعليّة باللّغة العربية.
فقد بيّنت أبحاثٌ مُؤخّرة أن التحول الرقمي في تعليم اللغة العربية يُساهم في رفع فعّالية التعليم ـ ليس فقط من حيث الوصول إلى المحتوى، بل من حيث المشاركة والتفاعل والممارسة الذاتية. (ejournal.diwanpustaka.com) مثلاً، دراسة بعنوان «Use of Technology as a Media for Learning Arabic in the Digital Era» أظهرت أنّ استخدام وسائط مثل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، الفيديوهات التفاعلية، منصّات التعليم الإلكتروني، قد أصبح أمراً جوهريّاً. (digitalpress.gaes-edu.com)
كما أن التعليم عن بُعد يُمكّن متعلّمين من أماكن بعيدة جغرافياً من الانخراط في تعلم العربية، وهو ما كان مستحيلاً أو مكلفاً سابقاً. هذا يبني جسرًا بين المركز والمحيط، ويضع العربية في متناول أكبر عدد ممكن من الناس.
تطوير المحتوى والموارد: من قواميس إلى بنوك معلومات ومصطلحات
لكن التعليم ليس وحده. فالثورة المعلوماتية خدمت اللغة أيضاً من خلال تطوير المحتوى والموارد الرقمية: القواميس، الترجمات، المنصّات التفاعلية، الكتب الإلكترونية، والمواقع التعليمية — كلها ساهمت في تعزيز مكانة العربية في البيئة الرقمية.
على سبيل المثال، هناك بنوك معلومات ومصطلحات تُعدّ لخدمة اللغة العربية، تُوظّف التقنيات الحديثة مثل التعلّم الآلي لتحسين تجارب المستخدم العربي. هذه الموارد تجعل العربية أكثر تنافساً على «منصّة المعرفة الرقمية» وتجعل الوصول إليها أسرع وأسهل. بعض الدراسات تشير إلى أن هذا التطوّر لا يزال بحاجة إلى تعزيز، لكن الاتجاه إيجابي. (jurnalhunafa.org)
كيف يُقرأ هذا التحوّل من منظور سرديّ؟
تخيّل معي مشهداً: فتاةٌ سوريةٌ مقيمة في إحدى القرى الجبلية، لا تتوفّر فيها مدرسةٌ مختصّة للغة العربية لمرحلةِ متقدّمة، لكن بفضل هاتفها الذكي واتصالها بالإنترنت، باتت تتعلّم العربية على منصةٍ تعليمية عربية، تشارك في مجتمعات عربية رقمية، وتحصل على كتبٍ إلكترونية في مباحث النحو والبلاغة — كل ذلك من جدار غرفتها. هذا التصوّر ليس مسألة خيال بل واقعٌ فعليّ في كثير من الدول العربية والمغتربة.
كما أن الباحث العربي الذي كان يُضطر للسفر أو إقامة مكلفة ليشارك في مؤتمرات أو يطّلع على مراجع نادرة، صار اليوم يدخل قواعد بيانات، ويشارك في ورش عمل افتراضية، ويتبادل أفكاراً بلغته وبمنحى بحثي حديث — بفضل البيئة الرقمية التي تُتيح التعاون والتشارك.
وهنا يكمن جوهر الخدمة التي أدّتها الثورة المعلوماتية للّغة العربية: لا جعلتها رقمية فحسب، بل جعلتها مشاركة، متاحة، حية — ليست فقط لغة قراءة، بل لغة حوار وعمل وإنتاج.
التحديات التي لا تزال قائمة
لكلّ إنجازٍ تحدّياته، واللغة العربية ليست استثناءً. فدراسات حديثة أشارت إلى أن:
- المحتوى العربي الرقمي ما يزال أقلّ حجماً بكثير مقارنةً بعدد المتحدّثين بالعربية أو حجم المحتوى المتوفّر بالإنجليزية أو لغات أخرى. (teachmearabic.org)
- جودة المحتوى ليست دائماً متسقة أو مُهيّأة تعليمياً بالشكل الكافي. (ijelass.darulilmibinainsan.or.id)
- بعض التقنيات الذكية (مثل معالجة اللغة الطبيعية بالعربية، أو الذكاء الاصطناعي اللغوي) لا تزال تواجه صعوبات بسبب بنية اللغة – من حيث التركيب النحوي، تنوّع اللهجات، وندرة البيانات التدريبية. (teachmearabic.org)
- التفاعل الرقمي لا يحلّ بالكامل محلّ التعلّم التقليدي أو التفاعل البشري. بعض المتعلّمين يشعرون بأن «الممارسة» والتبادل الحيّ لا تزال مطلوبة. (ijelass.darulilmibinainsan.or.id)
وهذه التحدّيات تدعو لأن يكون الاستثمار في المحتوى العربي الذكي أولويّة: من تدريب المُعلمين، تطوير المنصّات، إلى ترجمة أو إنتاج محتوى أصلي، وتحفيز المستخدمين على المساهمة بدورهم.
لماذا يُعدّ هذا التحوّل مهمّاً؟
- حفظ الهوية اللغوية والثقافية: اللغة العربية هي ليس فقط وسيلة تواصل بل جزء أساسي من الهوية، والتكنولوجيا جعلت الحفاظ عليها وإحيائها أمراً فعالاً.
- توسيع الفرص المعرفية: من خلال المحتوى الرقمي العربي، يصبح بإمكان طالب من أيّ قرية الوصول إلى مرجع علمي، أو تابع عربي متابعة دورة متخصصة.
- المساهمة في التنمية الرقمية: اللغة العربية الرقمية تُمكّن من إشراك فئات أوسع في الاقتصاد المعرفي، وتفتح الباب أمام الإبداع العربي في الثقافة الرقمية.
- التنافس في الاقتصاد الرقمي العالمي: كلما ازداد المحتوى العربي، كلما ارتفع حضور العالم العربي إنتاجاً ومعرفةً على الإنترنت، وهذا يعزّز تأثيره الدولي.
خاتمة: العربية كمكوّن رقمي وليس مجرّد لغة
في ختام هذه المقالة، يمكن القول إن اللغة العربية لم تكن مجرد مستفيدة من الثورة المعلوماتية، بل أصبحت فاعلًا نشطًا، ومنتجًا، ومتفاعِلاً داخلها. من الانتشار عبر شبكات التواصل، إلى المعرفة الرقمية، إلى أدوات التعلم الحديث — العربية دخلت الفضاء الرقمي بوصفها لغة حيّة، ليست مجرّد «لغة موروث».
لكن الطريق لا يزال طويلاً. فحتى بعد هذا التقدّم، هناك حاجة لمزيدٍ من المحتوى، لمزيدٍ من التخصّصات الرقمية، ولمزيدٍ من الابتكار التقني واللغوي معاً. إذا كان القرن الحادي والعشرون قرن المعرفة والمعلومات، فعلى العربية أن تأخذ موقعها الكامل فيه، ليست فقط كلغة يتحدّث بها ملايين، بل كلغة تُقرأ، تُعلّم، تُشارك، وتُنتَج بها المعرفة أيضاً.


