عندما ينمو أرنبٌ، ينهض الوَشِق، ثم ينخفض الأرنب… فتنخفض أخرى
في عوالم الغابات الثلجية البعيدة، حيث تغالب الأشجار الباردة والوشاح الأبيض الأرض والسماء، تُرسم صورةٌ مثيرةٌ لتداخل حياة اثنين من أبرز سكانها: الأرنبُ الثلجيّ المعروف بـ Snowshoe Hare، والوشقُ الماهر Canada Lynx. هذه العلاقة ليست مجرد حالة افتراس بحتة، بل نمطٌ ثابتٌ في علم الأحياء يُعرف بـ «دورة المفترس والفريسة» — أو كما يقول علماء البيئة: «عندما تزدهر الفريسة، يزداد عدد المفترس، ثم ينخفض عدد الفريسة، فيتراجع المفترس»، وهكذا دواليك. (Biology LibreTexts)
ازدهار الأرنب: بدايةُ الحلقة
في بداية دورة الازدهار، ترتفع أعداد الأرنب الثلجي. الأسباب عدة:
- وفرة الغذاء النباتي: عندما تكون الأعشاب والأغصان بكثرة، يشعر الأرنب بوفرة، ويبدأ بالتكاثر.
- انخفاض معدَّل الافتراس نسبيًّا: قبل أن يستفيق المفترس الكبير، يكون للأرنب متسع من الوقت لزيادة نسله.
وعليه، تكثر الإناث، ويُولد الجُدد، ويتسع نطاق انتشارهم. هكذا يصبح الأرنب «منتَشِرًا» في المكان، وكلمة السر هي «وفرة الغذاء + وقت التكاثر».
ومن ثم، يظهر جانبٌ مهمّ: مع ازدهار الأرنب، يتوفر للمفترس – الوشق – طُعمٌ وفيرًا.
ازدهار الوشق: المفترس يستفيد
حينما ترتفع أعداد الأرنب، يجد الوشق نفسه في «موسم خيرٍ». هذا المفترس المتخصص يعتمد على الأرنب الثلجي كطعام رئيسي، في مناطق الغابات الشمالية. فعندما يكثر الطعام:
- تتحسن حالة الإناث من الوشق، فتتناسل أكثر.
- يتاح للفِرْد مفترَس أن يصطاد بسهولة أكبر، فيُحرز نجاحًا أكبر، ما ينعكس في زيادة البقاء للأفراد الجدد.
- المساحة التي يغطيها الوشق قد تتسع، إذ يقضي وقتًا أقل في البحث عن فريسة.
وبالتالي: مع زيادة الأرنب → ازدهار الوشق. هذا الرابط الأوّلي أساسي لفهم الدورة. (gov.nt.ca)
الانخفاض الحاد في أعداد الأرنب
لكن كما في كل قصةٍ بيئية، ليس الخير أبديًّا. حينما يبلغ عدد الأرنب ذروته، تبدأ عوامل متراكمة بدفعه للانحدار:
- كثافة السكان العالية تؤثر سلبًا على الغذاء والنمو، فالأغصان تُؤكل بشدة، والنباتات لا تلبّي الطلب.
- الافتراس يشتدّ: الوشق الآن لديه وفرة فريسة، يصطاد أكثر، ما يُضعف الأرنب.
- الإناث من الأرنب قد تُصاب بإجهاد بيئي أو نقص غذائي، فيُقل إنتاجها من الصغار أو تقلّ قدرتها على البقاء.
- حتى فترة الشتاء القاسية أو التغيرات البيئية قد تؤثر.
إذًا، فإن ارتفاع الأرنب لا يدوم إلى الأبد — ثم يأتي الانخفاض. وعندما تهبط أعداد الأرنب، فإن منحنى أعداد الوشق يبدأ أيضاً ـ لكن بعد تأخّر زمني بسيط.
تراجع الوشق: المفترس يدقّ جرس الإنذار
مع تراجع أعداد الأرنب، يواجه الوشق ظروفًا صعبة، إذ:
- تقلّ الفرائس المتاحة، ما يجعل المفترس يعاني من جوع أو اضطراب في التوازن الغذائي.
- الإناث من الوشق قد لا تحصل على ما يكفي من طاقة لتكوين نسل أو الإرضاع.
- ربما يُضطر الوشق إلى التوسع في نطاقات أكبر أو تغيير في نمط الصيد، ما يزيد من المخاطر.
- بالتالي، ينخفض عدد الوشق، بعد تأخّرٍ زمني مقداره سنة أو سنتين تقريبًا بعد هبوط الأرنب. (gov.nt.ca)
وبينما ينخفض الوشق، تبدأ الأرنب في استعادة موقعها ـ إن توافرت الظروف ـ ويُعاد رسم الحلقة.
ما هي القوى المُسيِّرة لهذه الدورة؟
سؤال مهمّ: ما الذي يشغّل هذا التذبذب؟ نستطيع الإجابة بهذا الشكل:
- وفرة وندرة الغذاء: طالما الأرنب يتغذى على نباتات، فإن تراجع الغطاء النباتي أو استنزافه يُضعف الأرنب. (National Park Service)
- الافتراس: المفترس يضغط على الفريسة؛ وكما تقول نظرية «المفترس والفريسة»، عندما تكون الفريسة كثيرة، يرتفع عدد المفترس، ثم تقلّ الفريسة، فينهار المفترس. (Biology LibreTexts)
- التكاثر والبقاء: حالة الإناث من الأرنب والوشق تؤثّر كثيرًا — كم عدد الصغار، كم منهم يبقى على قيد الحياة؟ وضغط المفترس أو نقص الغذاء يُضعف هذه العملية. (What’s Happening Around Florida)
- تأخّر الزمني (Lag): زيادة أعداد الأرنب تؤدي بسرعة إلى ازدياد المفترس، لكن هبوط المفترس يتأخر بعد هبوط الأرنب، بسبب بقاء الأفراد البالغة بعض الوقت. (gov.nt.ca)
- الظروف البيئية: تغيّرات المناخ، هطول الثلوج، تغطية النبات، وحتى تغيّر سلوك المفترس بسبب البيئة تلعب دورًا.—مثلاً، انخفاض عمق الثلج أثر على فعالية المفترسين والفرائس. (canadiangeographic.ca)
هذا النمط… هل ينطبق في العالم العربي؟
قد يتساءل القارئ: «حسناً، لكن هل تحدث هذه الدورة في العالم العربي؟» الجواب: ليست بنفس الشكل. هناك عدّة أسباب تجعل هذا النموذج الأصلي غير مباشر التطبيقات هنا:
- الأرنب الثلجي ووَشِق «كندا» هما أنواعٌ شمالية متكيفة مع غابات الثلج والبرد. في الوطن العربي غالبًا ليسا متواجدين.
- نظم المفترس والفريسة في البيئة العربية تختلف: هناك أنواع محلية من الأرانب أو الأرانب البريّة، وأصناف من المفترسات (وشق، نمر، قِطط برّية) لكنها في سياقات بيئية مغايرة تمامًا.
- الغذاء، البيئة، المناخ، التكاثر، كل ذلك مختلف: الصحارى أو المناطق شبه الصحراوية تحكمها قوانين بيئية مختلفة.
- رغم ذلك، فالجوهر (زيادة الفريسة → زيادة المفترس → تناقص الفريسة → تناقص المفترس) يمكن أن ينطبق بنسخ محلية، لكن المصادر والأنواع والمُعدِّلات تختلف.
إذًا: النموذج الكلاسيكي موجود نظريًّا، لكن تطبيقه الحرفي في العالم العربي ليس مباشرًا — ويستلزم دراسات ميدانية محلية لفهم ما يجري.
لماذا تهمّنا هذه الدورة؟ وما الرسالة البيئية منها؟
- دليلٌ على التوازن البيئي: العلاقة بين المفترس والفريسة تُظهر مدى ترابط العناصر في الطبيعة، وأنّ أي خلل في أحدها يُحدث ارتدادات في البقية.
- تحذيرٌ من الإفراط البيئي: مثلاً، إذا فُقد المفترس أو الفريسة أو حصل تغيّر بيئي كبير، قد تنهار الدورة ويُصاب النظام البيئي بخروجٍ عن الاستقرار.
- أهمية مراقبة الأنواع: فهمنا لهذه الدورة يساعد علماء البيئة على توقع تغيّرات عدد الأنواع، واتخاذ خطوات حماية أو تعديل حين يلزم.
- بُعدٌ تربويّ: هذا النموذج يُستخدم في التعليم لفهم كيف تعمل الأنظمة البيئية والتقاطعات بين النبات والحيوان والمناخ. مثلاً يُدرّس تحت عنوان «دورة الأرنب والوَشِق». (Easy Fun Science)
خلاصةٌ سرديّة
تخيّلوا ذلك الصباح البارد في غابة شمالية؛ تنبعث رائحة الثلج فوق الأشجار، وتتحرك الأرنب بسرعة خفيفة بين الأغصان. الأعداد تزداد، الأنثى الأرنب تلد مرات متعددة، والفريسة تصبح وفيرة. في الخلفية، الوشق الخفي يدقّ بوحكمة على مسار الفرائس: يراقب، يصطاد، يتكاثر. ثم، فجأة، يشعر الأرنب بأن الأرض بدأت تضيق به، الأغصان أقلّ، الافتراس أكثر. الأعداد تتراجع. والوشق يلاحظه، يتراكم الضغط، ويبدأ هو أيضاً في الانخفاض، ربما يهاجر أو ينحسر. وبعد فترة، يعود الأرنب ببطء، يستعيد أقدامه، ويبدأ المشهد من جديد. هكذا تسير الحياة — في رقصةٍ بيئية دائمة.
في النهاية، إن فهمنا لتلك الدورة — ازدهار الأرنب، ازدهار الوشق، تراجع الأرنب، تراجع الوشق — هو ليس فقط لمعرِفة الحياة البرّية في مناطق بعيدة، بل هو تذكير بأن كل كائنٍ هو جزء من شبكة متشابكة. وكل ارتفاعٍ أو انخفاضٍ في أحدها ينعكس على الآخرين.


