تشهد المنطقة العربية اليوم مرحلة مفصليّة في تاريخ التطوّر التقني، حيث يقف الذكاء الاصطناعي (AI) عند مفترق طرق: إمكانات هائلة من جهة، وتحدّيات جذرية من جهة أخرى. في هذا الإطار، أصدرت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) (ESCWA) تقريرًا مهمًا تحت عنوان Artificial Intelligence Futures for the Arab Region يلقي الضوء على مستقبل الذكاء الاصطناعي في المنطقة العربية حتى عام 2040. (unescwa.org)
التقرير لا يكتفي بوصف الواقع أو التنبّؤ بما هو قادم، بل يقدّم خريطة طريق استراتيجية تحدّد ثلاثة مسارات رئيسية لتنمية الذكاء الاصطناعي في المنطقة: شراكات وتكييف تقنيّ يتناسب مع الأولويات المحلية، صناعة نماذج ذكاء اصطناعي عربية تعزز الهوية اللغوية والثقافية، واستخدام الذكاء الاصطناعي كرافعة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. (ie edu)
في هذا المقال، نستعرض هذه الرؤية بمزيد من التفصيل، نُحلّل الفرص، نستعرض المخاطر، ونخلُص إلى أبرز التوصيات التي طرحها التقرير — مع تقديم قراءة مهنية تُسهّل استيعاب التأثير المحتمل على الحكومات، القطاع الخاص، والمجتمع المدني في المنطقة العربية.
1. الذكاء الاصطناعي كـ« megatrend » تحوّليّ
منذ سنوات بات من الواضح أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تِقنيّة إضافية، بل ظاهرة تغيّر قواعد اللعبة في الاقتصاد العالمي والمجتمع والثقافة. التقرير يُؤكِّد أنّه في المنطقة العربية، كما في أماكن كثيرة، الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون عامل تسريع للتحوّلات الأساسية في القطاعات الجوهرية — الرعاية الصحية، التعليم، الخدمات الحكومية، الحفظ الثقافي — مما يمنحها فرصاً غير مسبوقة للنمو والتطوير. (unescwa.org)
فعلى سبيل المثال، في قطاع الرعاية الصحية، قد تُستعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض، أو تحليل الصور الطبية بسرعة أكبر، أو دعم اتخاذ القرار. في التعليم، يمكن أن تُطوَّر منصّات ذكيّة تُراعي الفروقات الفردية بين الطلاب، وتوسّع وصول التعليم إلى مناطق نائية. كذلك في الحفظ الثقافي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُسهم في رقمنة التراث وإتاحته بطرق جذابة.
لكن، وكما يشير التقرير، فإن إمكانات الذكاء الاصطناعي لن تُتحقق تلقائياً، بل تتطلّب بنية أساسية، حكماً رشيداً، وتأهيلاً بشرياً مؤثّراً. (ie edu)
2. ثلاثة مسارات استراتيجية لمنطقة عربية ذكية
التقرير يُقدّم خريطة ثلاثية المسارات لإنجاح الذكاء الاصطناعي في المنطقة — وهي قائمة بطرق متكاملة يمكن للحكومات والجهات الفاعلة العمل بها:
أ) تكييف الشراكات والتكنولوجيا مع أولويات محلية
المسار الأوّل يركّز على استخدام التكنولوجيا العالمية، لكن عبر شراكات تُكيّفها مع أولويات وطنية وإقليمية. لا يكفي اعتماد حلول جاهزة «من الخارج» دون أن تتماشى مع الاحتياجات المحلية، سواء في البُنى التحتية أو القدرات البشرية أو الخصوصية الثقافية. التقرير ينادي بـ«فتح الشراكات، استخدام النماذج مفتوحة المصدر، وضمان أن الذكاء الاصطناعي يخدم الأهداف التنموية الأساسية». (ie edu)
مثلاً، إذا كانت إحدى الدول تسعى لتحسين تقديم خدمات الحكومة الرقمية، فإنها يمكن أن تستثمر في نظام ذكاء اصطناعي تحليلي يدعم تحسين تجربة المواطن، أو تحليل البيانات الحكومية لاتخاذ قرارات أسرع وأكثر دقة.
ب) الذكاء الاصطناعي والهوية في المنطقة العربية
المسار الثاني يُركّز على الأبعاد اللغوية والثقافية: «كيف يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي معبّراً عن الهوية العربية، وليس مجرد محاكٍ لتقنيات أجنبية؟». التقرير يشدّد على ضرورة تطوير نماذج ذكاء اصطناعي باللغة العربية، تأخذ في الاعتبار التنوع اللغوي والثقافي في المنطقة، وأن تُستخدم لمحافظة التراث، والتعليم، والنشر باللغة العربية. (ie edu)
في هذا السياق، شهدنا مبادرات حديثة، مثل إطلاق نماذج ذكاء اصطناعي عربية، أو برامج لتدريب متخصصين في اللغة والتقنية. (The Times of India)
هذا المسار ليس تجميليّاً فقط — بل هو ضرورة لفهم وتطبيق الذكاء الاصطناعي بطريقة تراعي السياق المحلي، وتحقّق عدالة معرفية.
ج) الذكاء الاصطناعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة
المسار الثالث يأخذ الذكاء الاصطناعي كأداة تمكين لتحقيق الأهداف التنموية: تحسين جودة التعليم، تمكين العمل اللائق، الحدّ من الفجوات، تعزيز البنية التحتية. التقرير يُبيّن أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُسرّع التقدّم في هذه المجالات إذا ما تمّ توظيفه بشكل استراتيجي ومُنسّق. (ie edu)
مثلاً، البلدان التي لديها نقص في المعلمين أو في الموارد المدرسية قد تستفيد من أدوات ذكية مخصّصة للتعليم عن بُعد أو تحليل بيانات الأداء لتوجيه السياسات. أو في الصحة العامة، تحليل البيانات الضخمة يمكن أن يُساعد في التنبّؤ بتفشّي الأمراض وتحسين الاستجابة.
3. الفرص الكبرى: من الوظائف إلى الابتكار والهوية
من بين أبرز الفرص التي يسلّط التقرير الضوء عليها:
- خلق وظائف ومهارات جديدة: مع التوسّع في استخدام الذكاء الاصطناعي، تُفتح أمام المنطقة أبواباً لوظائف لم تكن موجودة سابقاً — مهندسو بيانات، محلّلو ذكاء اصطناعي، مطوّرو نماذج لغوية عربية، وأخصائيّو أخلاقيات التقنيات. التقرير يشير إلى أنّه «بالرغم من أن الذكاء الاصطناعي قد يُغيّر أو يُزيح بعض الوظائف، فإنه كذلك سيخلق ملايين من فرص العمل الجديدة». (unescwa.org)
- تحويل النماذج الاقتصادية: من اقتصاد قائم على الموارد التقليدية إلى اقتصاد المعرفة والابتكار، وهذا التحوّل يبدو واضحاً في بعض دول الخليج التي تستثمر في البُنى التحتية الرقمية وفي استقطاب المواهب. (BCG)
- تعزيز الهوية اللغوية والثقافية: من خلال تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي بالعربية، يُمكن للمنطقة أن تحتفظ بتراثها، وتُقدّم محتوى وخدمات ذكيّة متخصّصة للمستخدمين العرب، وهذا بحد ذاته قيمة مضافة.
- دعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة: مثل التعليم الجيد، العمل اللائق، الشراكة العالمية من خلال التكنولوجيا، وتحسين البنية التحتية الرقمية — كلها أهداف يُمكن أن يُسرّع الذكاء الاصطناعي الوصول إليها.
4. التحدّيات والمخاطر: الحقيقة خلف الوعود
لكنّ التقرير لا يلبس نظارات وردية فقط. فهو يحذّر بصدق من مخاطر جمة، منها:
- الحوكمة الأخلاقية والخصوصية: مع قدرت الذكاء الاصطناعي على تحليل بيانات ضخمة، تظهر أسئلة حول من يملك البيانات، كيف تُستخدم، وما هي الضمانات ضد الاستخدام الضار أو التمييزي. (unescwa.org)
- زيادة الفوارق وعدم تكافؤ الفرص: إذا ما استُخدمت التقنيات في نطاق محدود من الدول أو الشركات الكبيرة فقط، فقد تتعمّق الفجوة الرقمية داخل البلدان وبينها، مما يُهدّد بعدم تحقق «تنمية شاملة».
- نقص المهارات والموارد البشرية المدربة: فى التقرير ذكرت “تفاوتات في القدرات، وقلة المتخصصين في الذكاء الاصطناعي” كأحد الحواجز المهمة. (ie edu)
- البُنى التحتية والتكلفة: الذكاء الاصطناعي يتطلّب بنية تحتية قوية — مراكز بيانات، حوسبة عالية الأداء، أمن سيبراني — وهذه تكلفة كبيرة.
- التنظيم والتشريع: بعض الدراسات في المنطقة تُشير إلى أن العديد من دول الخليج تتبنى نهج «تنظيم خفيف» للتحكّم في الذكاء الاصطناعي، ما قد يفتح الباب لمخاطر أخلاقية أو تشغيلية. (arXiv)
- التحدّيات الثقافية: حتى تصميم النماذج الذكية وتدريبها يتطلّب حسًّا ثقافيًّا — ماهي اللغة؟ ماهي الخلفيات؟ ما هو السياق المحلي؟ بدون ذلك، قد تفشل الحلول أو يُرفض استخدامها من المجتمع.
5. أبرز النتائج والتوصيات
في الجزء الختامي، يقدّم التقرير سلسلة من النتائج المهمة، وإلى جانبها توصيات واضحة:
– نتائج محورية
- الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على أن يكون عامل تغيير أساسي في المنطقة العربية حتى عام 2040.
- ولكن، الطريق ليس مضموناً؛ نجاحه يعتمد على إتاحة التكامل بين التكنولوجيا والبشر والثقافة.
- البلدان التي تبدأ مبكّراً في بناء القدرات، والبُنى التحتية، وتطوير المهارات، ستحصل على ميزة تنافسية.
- بالمقابل، التأخير أو الإهمال يمكن أن يؤدي إلى خسارة الفرص، أو إلى تكرار نماذج استيراد التكنولوجيا دون بناء محلي.
– توصيات استراتيجية
- تطوير إطار حوكمة موحَّد أو منسّق على مستوى الإقليم يعالج الخصوصية، الأخلاق، المسؤولية السيبرانية، والشفافية.
- الاستثمار في رأس المال البشري — تعليم الذكاء الاصطناعي، علوم البيانات، المهارات الرقمية — على مستوى التعليم العالي والتعليم المستمر.
- تشجيع الشراكات سواء بين الدول العربية أو مع الجنوب العالمي، بحيث لا يظل التطوير مقتصراً على دول بعينها أو شركات كبيرة.
- دعم إنشاء نماذج ذكاء اصطناعي عربية، بمنهجية مفتوحة المصدر، تأخذ بعين الاعتبار التنوع اللغوي والثقافي في العالم العربي.
- رصد تأثيرات الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، وإطلاق برامج تأهيل وإعادة تأهيل المهارات لمواجهة تغيّرات الوظائف.
- ضمان أن المشاريع والتطبيقات الذكية تُركّز على الأولويات الوطنية — مثل التعليم، الصحة، الخدمات الحكومية — وليس فقط على الابتكار التجاري.
- تحفيز استثمارات البنية التحتية الرقمية — مراكز بيانات، الحوسبة السحابية، الأمن السيبراني — لتوفير الأساس التقني الذي سيُبنى عليه كل شيء.
6. ماذا يعني هذا للحكومات، القطاع الخاص، والمجتمع المدني؟
• للحكومات
على صُناع القرار أن يروا الذكاء الاصطناعي ليس كمشروع ثانوي أو ترف تقني، بل كجزء استراتيجي من بناء الدولة المستقبلية. يتطلّب الأمر وضع سياسات واضحة، تنظيمات حديثة، واستثمارات في البنية والتدريب. ويجب ألا يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كبديل للبشر، بل كمكمّل يمكِّن تحقيق الخدمات بشكل أفضل وأسرع.
• للقطاع الخاص
يمكن للشركات — سواء الناشئة أو الكبرى — أن تُوجد فرصاً هائلة: في تطوير حلول ذكية، في تحسين الأداء، في الدخول إلى أسواق جديدة. لكن عليها توخي الحذر: الابتكار يجب أن يكون مسئولاً، أن يحترم الخصوصية والبيئة، وأن يُبنى على الواقع المحلي وليس مجرد نقل أفكار أجنبية.
• للمجتمع المدني والمواطن
من المهم أن يكون للناس صوت في مسألة كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي، ما هي البيانات التي تُجمع، ما هي الحقوق، وكيف يُمكن أن تضمن العدالة في الوصول. لأنّ الذكاء الاصطناعي إن لم يدعم الناس، قد يصبح أداة تُعزّز التفاوت أو تلغي حُرّيات أو تخضع للمراقبة.
7. قراءة مستقبلية: إلى أين تتجه المنطقة؟
إذا ما تتبّعنا هذا التقرير والمبادرات المتسارعة في دول عربية مثل الإمارات والسعودية، نجد أن المنطقة تتجه نحو ثلاث سيناريوهات موازية:
- سيناريو أول: الدولة العربية التي تبني بنية ذكية متكاملة، وتتمكّن من استغلال الذكاء الاصطناعي كرافعة رئيسية للنمو الاقتصادي.
- سيناريو ثانٍ: الدول التي تعتمد تكنولوجيا واردة لكن بدون بناء محلي قوي — قد تحقق بعض النجاح، لكن تبقى رهينة للتكنولوجيا الخارجية.
- سيناريو ثالث: التأخّر في الاستثمار، مما قد يدفع الدول إلى التخلّف في السباق العالمي، وتصبح مستهلكة للتكنولوجيا بدلاً من منتجة لها.
ولكي تتجنّب المنطقة السيناريو الأخير، يجب أن تنطلق اليوم — ليس غداً — في رسم السياسات، تدريب الأفراد، بناء الشراكات، وتحفيز الابتكار المحلي.
خاتمة
التقرير «Artificial Intelligence Futures for the Arab Region» ليس مجرد ورقة تحليلية أو خارطة طريق نظرية، بل دعوة للحركة ــ للحكومات، للقطاع الخاص، للمجتمع المدني ــ كي يؤمّنوا بأن الذكاء الاصطناعي لا يكون تجربة تقنية فحسب، بل تجربة تنموية، ثقافية، إنسانية.
إذا ما نجحت الحكومات في تحويل هذه الرؤية إلى واقع: تحسين التعليم، تقديم رعاية صحية أفضل، خدمات حكومية أكثر كفاءة، وتمكين مواطنيها من مهارات المستقبل — فستكون المنطقة العربية قد اقتنصت فرصة تاريخية.
أما إن بقي الأمر على الورق، فقد تجد نفسها في الخلفية بينما تقود دول أخرى نموّاً تقنياً واقتصادياً أسرع.
ولكي يكون الذكاء الاصطناعي «قوة للخير» وليس «أداة للفرق»، فالإشراك، الشفافية، المساءلة، والتوزيع العادل للفرص ــ كلها شروط لا يمكن التنازل عنها.
يمكن تحميل التقرير الكامل من موقع الإسكوا لمزيد من التفاصيل. (unescwa.org)


